مقابلة مع شيرين عساف
أجريت المقابلة بتاريخ 1512024
منال: مرحبا شيرين, ببداية الامر يجدر الذكر اننا صديقات وان هذه المقابلة ليست الأولى بيننا وان الحداد والفقدان الصعب الذي تمرين به هو السبب لاجراء المقابلة. بالبداية عرفينا على عائلتك.
شيرين: اختي ايمان (رحمها الله) تصغر مني بسنة، نحن ستة اخوة , بنتان واربع صبيان. شادي الأبن البكروالاخ الأكبر عمره 47, يعمل مدير تنفيذي وصيدلي بشركة بالسعودية , انا الثانية, عمري 46 سنة, ايمان عمرها سنة 45, ايمان حاصلة على شهادة بكالوريوس بالأدب الإنجليزي من الجامعة الإسلامية بغزة. احمد هو الاخ الرابع, يعمل كطبيب اسنان, محمد الأخ الخامس, يعمل ايضا كطبيب اسنان وعبد السلام الأخ الأصغر يعمل كمهندس كهرباء.
منال: حدثينا عن تاريخ العائلة منذ النكبة.
شيرين: عائلة بابا هي مجدلاوية الاصل, أي ان اصلهم من مدينة المجدل التي كانت تقع بلواء عسقلان القريب من مدينة غزة. ما اخبروني به هو ان جدي كان يدعى أبو توفيق احمد خريس وكان يملك دكان هو الدكان الوحيد بالمنطقة. كان لديهم بيت جديد بنوه فترة قصيرة قبل النكبة. وعندما خرجوا من المجدل كان مخططهم العودة بعد عدة أيام, بعد ان تهدأ وتنتهي الحرب. حكت لنا جدتي انه وقتها كان لديها ثلاثة أطفال, كان ابي اصغرهم وكان عمره ستة شهور. عندما خرجوا الى غزة مشيا على الاقدام لم يتوقف ابي الطفل عن البكاء .وفي لحظة ما واثناء مشيهما اقترح جدي على جدتي ان تترك ابي تحت شجرة وان يتابعوا هم المشي بسرعة باتجاه غزة الى ان يجدوا فيها ملجأ آمن يحتمون به ومن ثم يعود هو لأخذ ابي من تحت الشجرة. ببداية الامر قامت جدتي بفعل ما طلبه جدي منها, ولكنها سرعان ما عادت راكضة وحملت ابي بين يديها وقالت لجدي وهي تبكي "يا بنعيش سوا, يا بنموت سوا" وهكذا نجى ابي ولم يتركوه لوحده ورائهم. نحن تربينا على هذه القصة كي نفهم من خلالها مدى قصوة الهجرة وقصوة ما مروا أهلنا واجدادنا بالنكبة. اما عائلة والدتي فهي بالاصل من مدينة اللد, كان جدي, والد والدتي, عندما هجروا من اللد, صبي عمره 13 سنة, ولدت امي بمدينة غزة عام 1956. تزوج والداي بغزة وعاشوا فيها, وولدت انا واخوتي الثلاثة الكبار بمدينة غزة الى ان انتقلنا الى السعودية عام 1981 تقريبا, كان عمر ايمان اختي اربع سنوات تقريبا وكان ذلك بعد ان تلقى والدي عرض عمل كمترجم في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية السعودية. قبل ذلك عمل ابي كمدرس للغة الإنجليزية بمدينة غزة. اذ درس ابي بالجامعة ادب انجليزي وكان ذلك بجامعة عين شمس بالقاهرة, كان الكثير آنذاك من الفلسطينيين قد درسوا بجامعات مصر وذلك لان عبد الناصر سمح لجميع الطلبة الفلسطينيين الدراسة بالمجان في الجامعات المصرية.
لم نكن الوحيدين الذين انتقلوا للسعودية في تلك السنوات, اذ سبقنا وتلونا الكثير من العائلات التي انتقلت للعيش بدول الخليج بعد ان تلقى رب الاسرة فرصة عمل فيها. اود ان اشيد الى انه ورغم اننا عشنا سنوات عديدة بالسعودية فان ارتباطنا بغزة لم ينقطع في يوم من الايام, اذ اعتدنا ان نزور غزة والاقارب بالعطل الصيفية وكذلك فقد اشترى والدي قطعة ارض وبنى عليها لنا بيتا بغزة. لذا فارتباطنا الوجداني والعاطفي بغزة لم ينقطع يوما فحسب بل بقي حي ينبض وعزز تكوين هويتنا الوطنية حيث اننا اعتدنا كلما سألنا احدهم من اين انتم, كنا نجيب نحن مجادلة (نسبة الى مدينة المجدل) من فلسطين.
هكذا هم كل الغزيين اذا سالتيهم من اين انتم فكل يجيبك باسم البلد (القرية او المدينة) التي خرج منها وقت النكبة. لديهم اعتزاز بانتمائهم, ويبحثون عن انسباء مشابهين لهم من حيث المنشأ, فالمجادلة يبحثون عن مجادلة واللدادوة يبحثون عن لدادوة مثلهم وهكذا. كان ذلك مرتبط بحلم العودة ولذلك بحثوا عن من سيعودون معهم ويسكنون الى جوارهم في البلدان الاصلية التي خرجوا منها بالنكبة.
عاشت اختي ايمان في السعودية الى ان انهت مرحلة الدراسة الثانوية, كانت تلميذة متفوقة وحصلت على معدل علامات مرتفع جدا بشهادة الثانوية العامة, رغم ذلك لم يكن بمستطاعها الالتحاق بإحدى الجامعات السعودية, وذلك لان الدراسة بالجامعات السعودية تعتبر من الامتيازات المعطاة فقط للمواطنين حاملي الجنسية السعودية , اذ صنفنا كباقي الفلسطينيين كمقيمين غير مواطنين بالسعودية ولذا حرمنا من تلك الامتيازات. كان ذلك قد تسبب بعائق امام اختي ايمان التي رغبت جدا في ان تدرس بالجامعة ولم يسمح ابي الذي كان رجل محافظ ان تدرس احدى بناته بإحدى الجامعات الدول الاخرى او بالأردن كما فعل اخي شادي. لم يكن امام ايمان خيار غير جامعات غزة وان تسكن اثناء الدراسة عند اخوالي المقيمين بغزة.
بدأت ايمان بالدراسة بالجامعة الإسلامية بغزة وبعد سنة واحدة تقدم رائد لخطبتها. وهو من عائلة مجدلاوية الأصل مثلنا مما جعل ابي واعمامي مرحبين وسعيدين بهذا النسب. كان والد رائد طبيب نساء وقد سافر الى الكويت للعمل هناك, اذ ولد رائد بالكويت وبعد ان استطاع والده ان يؤسس نفسه عاد الى غزة وافتتح مستشفى خاص مختص بالولادة. كان والد رائد اول طبيب فلسطيني يملك الزمالة البريطانية بغزة. درس رائد واخوته برومانيا وعادوا الى غزة وعملوا كأطباء في غزة.
تزوجت ايمان من رائد سنة 1998 وذلك قبل الانتفاضة الثانية. كانت الأوضاع آنذاك تختلف تماما عما هو اليوم, كنا نتبادل الزيارات وكنت استلم التصريح في دخول غزة بشكل فوري وكنت اقدم طلبات للتصريح لايمان ان تاتي لزيارتي هنا وكانت تقبل دون شروط او تعقيدات. كان ذلك سنوات قليلة بعد ان استلمت السلطة الفلسطينية إدارة أمور البلاد بغزة, اذ كان شعور من الاستقرار وبداية نهضة وتطور عمراني هناك. وكانت الحياة بالرغم من بساطتها لها طعمها الخاص حيث استمتعت جدا في زياراتي لغزة في تلك الأيام.
منال: متى شعرتم بتغيير الأوضاع؟
شيرين: عام 2000 عندما اندلعت الانتفاضة الثانية تغيرت الأوضاع قليلا وفي عام 2006 بعد ان فازت حماس بالانتخابات للسلطة بغزة تغيرت الأوضاع وتغيرت تماما وبشكل سيء بعد الانقسام بين فتح وحماس عام 2007
بعام 2003 انتقلت ايمان وعائلتها الى بيت جديد بعمارة جديدة بنيت بمحاذاة العمارة التي تواجدت بها المستشفى الخاص بعائلة رائد, وكذلك انتقلت المستشفى بمعداتها واقسامها الى المبنى الجديد وهوكما قلت يبعد امتار قليلة عن المبنى القديم, حيث انتقلت المستشفى الى مقرها الجديد وهو في الطوابق السفلى بالعمارة وشقق سكنية لعائلة ايمان وعائلات اسلافها بالطوابق العليا في العمارة الجديدة. في تلك السنوات كانت ايمان ام لأطفال صغار وكان عليها ان تضع اطفالها بحضانات كي تتمكن من الخروج الى العمل, اذ تقاضى الموظفين أجور منخفضة وبمعدل الف شيكل شهريا, لذلك فضلت ايمان في ان تبقى هي بالبيت مع اطفالها من ان تدفع للحضانات مبلغ يفوق الراتب الذي كانت ستحصل عليه لو توظفت بوظيفة رسمية, كذلك كانت أوضاعهم الاقتصادية جيدة حيث ان رائد عمل بمستشفى الشفاء الى جانب عمله بالمستشفى الخاص بهم. مع كل ذلك كانت الحياة مركبة ومليئة بالتحديات اذ لم تنعم ايمان بالخصوصية التي اعتدنا عليها عندما كنا نعيش بالخليج, كذلك بعدها عن عائلتها وعدم سهولة الزيارات واللقاءات بيننا صعب عليها الأمور أيضا.
حاولوا مرة الهجرة الى السويد لكن رائد زوج اختي لم يكن مرتاح مع تلك الخطوة , فهو ملتزم لجذوره وهو الذي كان يقول دائما اننا اهل الرباط وعلينا ان لا نترك بلادنا والارث الذي تركه لهم والده, المستشفى. بالرغم من ذلك وعندما رأى ان الأحوال بغزة تزداد سوءا بدى قلق على مستقبل أبنائه وعلى فرص العمل الشبه معدومة في غزه ،لذلك أصبح اكثر تقبلا لفكره الهجرة, بالرغم من ذلك الا انه لم يحارب من اجل الخروج من غزه، واستكفى بتقديم اوراقه من اجل الخروج الى السويد الا ان الأمور تعرقلت واكملوا حياتهم في غزه.
منال: حدثينا عن أولاد ايمان
شيرين: سميره البنت الكبرى عمرها كان 25 سنة وقد انهت دراسة طب الاسنان في جامعة خاصة "جامعة فلسطين" في غزه ، كانت مخطوبة وكان قد حدد موعد لعرسها في العشرين لشهر ديسمبر, وكذلك يوسف الأبن الثاني كان قد انهى دراسته في جامعة الأزهر بتخصص برمجة الحاسوب وكنا نسعى من اجل مساعدته كي ينتقل الي كندا بجوار اجداده ( اهلي) ليبحث عن فرصة عمل هناك ، واحمد الابن الثالث درس أيضا الطب في جامعة الأزهر حيث انهى السنة الثالثه من دراسة الطب ، كذلك عمرو ابنها الرابع ً تعلم في نفس الجامعه ، وكان من المفترض ان يبدأ عبد الرحمن في الجامعة في هذه السنه،
كان التحدي لدى ايمان في هذه الفتره هو كيفية تأمين مستقبل الأولاد. كان لديهم الكثير من الطموحات والأحلام وكانت تحاول ايمان أنا تصنع الامل والحياة بأقل الإمكانيات حيث كانت تذهب إلى النادي "نادي شامبنيون" وكان هذا النادي الملتقى الإجتماعي لإيمان حيث تلتقي فيه مع صديقاتها وكانت الحياة الاجتماعية تجري هناك.
منال: قلت لي ان اخر مرة التقيت بها وجه لوجه كان من ثلاث سنوات, في حفل عرس محمد اخوكن.
شيرين: نعم كان ذلك في عام 2020 في عمان بالأردن. استغرق لايمان ان تصل من غزة الى عمان ثلاثة أيام ونصف. ان كان اجتماع جميع افراد عائلتنا هو بحد ذاته تحدي, ذلك لأننا نعيش في بلدان مختلفة. بالنسبة لايمان القادمة من غزة فعليها ان تقوم بتسجيل اسمها بمعبر رفح ودفع ضريبة بقيمة الف دولار الى ان يتم استدعائها كي تسافر عبر المعبر والدخول الى مصر ومن هناك عليها ان تركب مواصلات من العريش المصرية الى مطار القاهرة ومن مطار القاهرة الى عمان. ان المعاناة التي يواجهها الغزيين مع معبر رفح هي معاناة لم يعشها احد مثلهم, فالمعبر بين الحين والأخر يتم اغلاقه دون اشعار مسبق حول نية الاغلاق او حول مدة الاغلاق وكذلك لا يتم الإعلان موعد افتتاحه من جديد, هناك طلبة الجامعات الذين يأتون من دول الخارج لزيارة أهلهم وعند إغلاق المعبر لا يمكنهم العودة الى مقاعد الدراسة مما سبب لهم ان خسروا السنة الدراسية. في صيف عام 2006 كان من المخطط ان يقام عرس اخي شادي بالقاهرة بمصر وكنا جميعا قد تحضرنا لذلك, وإذ بحرب لبنان الثانية قد اندلعت مما تسبب في ان يتم اعلاق المعبر برفح, حتى اخر لحظة تأملنا ان يفتح المعبر ابوابه من جديد وان تتمكن ايمان من الحضور والمشاركة بالعرس ولكن للاسف لم يحصل ذلك وبقي المعبر مغلقا مدة طويلة. كان المواطن الغزاوي دائما مقيد في كل مخططاته بسبب الحصار المفروض عليه. ،
منال: لم تكن هذه الحرب هي الحرب الوحيدة التي تشن على غزة، ففي السنوات الأخيرة كانت هناك عدة عمليات عسكرية وغارات جوية شنتها إسرائيل على غزة، كيف تعاملتم مع الوضع؟
شيرين: هذا الفيلم او السيناريو اصبح نوعا ما مسلسل مألوف، ففي كل الحروب السابقة كنا متوترين ومتيقظين وقلقين على إيمان. لكن هذه الحرب لم تشبه أي حرب او حملة عسكرية كانت قبلها. تصريحات كبار المسؤولين في إسرائيل تحدثت عن إبادة، وبالرغم من ذلك كان لدينا نوع الإنكار، إذ كنا نأمل أن تتوقف الحرب بعد أيام قليلة من اندلاعها.. لكن انظري، لقد مرت 100 يوم وهي لا تزال مستمرة. لم نعتقد أن الحرب ستستمر طويلاً. في البداية كانت التفجيرات في شمال قطاع غزة، في بيت حانون وجباليا وبيت لاهيا. وكانت هذه الأماكن بعيدة عن المنطقة التي تعيش فيها إيمان. وبعد أن تلقوا في منطقتهم أمراً بإخلاء المباني والانتقال إلى جنوب القطاع، بدأ القلق. في البداية ولأنهم يعيشون في مبنى به مستشفى أيضًا، اعتقدوا أنهم سيحظون بالحماية وانه يمكنهم ان يبقوا في بيوتهم. كما أنهم لم يصدقوا أنه سيتم قصف المستشفيات، من يقوم بقصف المستشفيات، فهذا أمر مخالف للأخلاق ويحظر القانون الدولي قصف المستشفيات، علاوة على ذلك، كانت أمام منزلهم مدرسة يرتادها العديد من النازحين من شمال غزة للاحتماء فيها. لكن في وقت لاحق، قررت إيمان وعائلتها الانتقال إلى الجنوب والإقامة في شقة مملوكة لعائلة خطيب سميرة، ابنة إيمان. لكنهم هم ايضا تلقوا أوامر بإخلاء المبنى. قرر رائد ان يذهبوا جميعا إلى منزل أخت رائد. وتعيش شقيقة رائد في حي الزهراء جنوب وادي غزة. وبعد ان بقيا يومين في بيت اخت رائد، أخبر رائد إيمان بأنه خائف وأنه يشعر بضرورة العودة إلى منزله. كان يخشى من أن لا يتمكن من رؤية منزله مرة أخرى. وفي الأخبار وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، كان هناك حديث أيضاً عن تقسيم غزة، مما زاد من خوف رائد من عدم تمكنه من العودة إلى منزله. كما تعلمين، إنه خوف موجود دائمًا لدى الفلسطيني، أنك إذا غادرت منزلك، فقد لا تتمكن أبدًا من العودة إليه.
شقيقا رائد لم يغادرا المبنى منذ بداية الحرب، لقد غادرت نساؤهم وأطفالهم واتجهوا جنوبًا، لكن الرجال بقوا في المنازل قالوا: "هذه منازلنا، وهذا مستشفانا، ولا نريد المغادرة". هم ايضا سمعوا على خطة تقسيم غزة، وترحيل اهلها كما حدث عام 1948، لذا فضلوا ان يبقوا حتى لا يتم ترحيلهم. قالوا إنهم لا يريدون أن يمروا بما مر به اهلهم في نكبة عام 48. عاد رائد والعائلة إلى منزلهم. إيمان أختي كانت مترددة بداخلها إذ لم تستطع أن تقرر هل كان قرار العودة إلى المنزل صائبا أم لا. كانت خائفة من العودة ولكن ايضا كان هناك صوت بداخلها يخبرها بأنها ستشعر بالراحة داخل منزلها. كانت إيمان والأولاد خائفين جدًا. لم تتحدث معنا عن خوفها، فهي امرأة مؤمنة للغاية، وهي التي كانت تحاول تهدئة خوف الجميع - بالرغم من ذلك شعرنا بالخوف في نبرة صوتها.
كانت أصوات القنابل والتفجيرات في المباني التي حولهم قد استمرت عدة ليال. كانت إيمان تكتب إلى مجموعة العائلة عبر الواتساب: "لا أعرف كيف لا زلنا على قيد الحياة". الامكانية للتوجه نحو الجنوب في تلك الأيام كانت لا زالت متاحة، كان هناك أيضًا احاديث في الأخبار عن نية وقف إطلاق النار، وعن أنه هناك اتفاق يتم تشكيله لتبادل الأسرى - لذلك كانوا يأملون أن يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ وأن لا يضطرون إلى مغادرة المنزل.
وحتى ومن خلال استمرار التفكير والمناقشة في الذهاب الى الجنوب, فجميعهم يعلمون انه لا توجد أي منطقة آمنة بالقطاع. إذ أن هناك أشخاصاً تم قصفهم أثناء فرارهم من منازلهم وتم قصف مخيمات البريج والمغازي الواقعة بجنوب القطاع, كما انه تم قصف معبر رفح الحدودي، ما بات واضح أنه لا يوجد مكان آمن على الإطلاق في كل قطاع غزة.
في يوم السبت ال 11 من شهر نوفمبر- تشرين الثاني، استيقظنا في الصباح وقرأنا رسالة عبر مجموعة الواتساب الخاصة بالعائلة تقول: "نحن محاصرون بالدبابات". سألناهم ماذا ستفعلون؟ قالوا إنهم يريدون معرفة ما إذا كان هناك طريقة للخروج. ثم بدأت الدبابات بإطلاق النار على الطوابق العليا للعمارة، فتضررت الطوابق العليا وبدأت النيران تشتعل فيها. هذه هي الطوابق السكنية كما اخبرتك. بدأ الجميع ممن تواجدوا في الطوابق العليا بالنزول إلى الطوابق السفلى حيث يتواجد المستشفى. عدا عن إيمان وأولادها كان هناك نساء نزيلات بالمستشفى واطفالهن، كذلك ابناء عمومة رائد الذين قصفت منازلهم ووجدوا في المستشفى مأوى لهم، وكان هناك أيضًا جيران لجأوا ايضا للاحتماء داخل المستشفى. كان عددهم نحو 70 شخصاً. وكانت قوة التفجيرات في اتجاه متزايد أحيانا وأحيانا أخرى في اتجاه متناقص.
منال: ألم يفكروا في ان يخرجوا ويرفعوا راية بيضاء؟
شيرين: لا. غادروا من الباب الخلفي للمبنى ودخلوا المبنى القديم الذي كان فيه المستشفى القديم، برغبة الابتعاد عن الدبابات. ومن هناك اتصلوا بالصليب الأحمر ليأتي ويخليهم، إذ لم يكن أمامهم أي مخرج آخر. وأخبروهم من الصليب الأحمر أنهم لا يستطيعون الحضور على الفور، وأنهم سيأتون لإجلائهم في اليوم التالي الساعة 10 صباحًا. وحيثما قامت شقيقة رائد التي تعيش في جنوب القطاع بالاتصال بالصليب الأحمر. قمت أنا وإخوتي بالتواصل مع الصحفيين ومراسلي القنوات الإخبارية، وقمنا بالاتصال بقناة الجزيرة. أبلغناهم بوجود أشخاص عالقين في" مستشفى مهدي للولادة" وأنهم يستغيثون ويطلبون إخراجهم من هناك. وقد نشر الخبر على شاشات قناة الجزيرة ذلك المساء مفاده ان هناك أشخاصاً عالقين في مستشفى المهدي للولادة ويطلبون إنقاذهم من هناك. جرت اخر محادثة لي مع سميرة ابنة ايمان وفي الساعة 22:00. طلبت منا أن نصلي لكي يمر الليل بسلام، حتى يأتي الصليب الأحمر لإنقاذهم في يوم الغد. قالت إنه لم يوجد لديها الكثير من الشحن في هاتفها وأنها تريد إطفاء الهاتف حتى يبقى شحن في البطارية وتتمكن من اشغال الهاتف في اليوم التالي عندما يأتي الصليب الأحمر لإنقاذهم. ثم في الساعة 23:00 أعلنت قناة الجزيرة قصف مستشفى المهدي ومقتل طبيبين. لقد شاهدنا ذلك على شاشة التلفزيون ثم بدأت في الاتصال بجميع أرقام الهواتف التي لدي لعائلة أختي واولادها، وكانت جميع الهواتف مغلقة. اتصلت بأخت رائد التي تعيش في الولايات المتحدة وكانت في غاية الانزعاج والبكاء، وقالت: "لقد قصفوا المستشفى". سألت - "ماذا حدث؟" وقالت إنه من المعروف أن شقيقها باسل قُتل لكن لم يتضح من هو القتيل الآخر. بعد ذلك اتصلت بأخت رائد الأخرى، التي تسكن في جنوب غزة، وأخبرتني أيضًا أن باسل قُتل. سألت ماذا عن الباقي فأجابت أنهم لا يعرفون. وعندما سألتها كيف عرفت بما حدث، قالت انها علمت ذلك من أخيها الأكبر مهدي، ثم قلت في نفسي: إذا كان مهدي هو الذي نجا، فمن المحتمل أن الشخص الآخر الذي قُتل هو صهري رائد. وبعد وقت قصير، اتصلت بي ابنة أخت رائد، من الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تبكي وبدأت تعزيني، اعتقدت أنها كانت تتصل لتخبرني أن رائد هو الضحية الثانية - لكنها أعلنت أنهم قتلوا جميعا. حتى اليوم التالي كنت في حالة إنكار، وتمنيت ألا يكونوا قد ماتوا جميعًا، وان ينجو ولو شخص واحد منهم.
منال: ربما الأمل الذي كان عندك مرتبطًا بحقيقة معرفتك بأن الجثث لم يتم انتشالها على الفور، وانهم لم يتمكنوا من إخلاء الجثث ودفنها إلا بعد أسبوعين وبعد قرار وقف إطلاق النار.
شيرين: قُتل ثلاثون شخصاً تحت التفجيرات تلك الليلة. مهدي، وشقيق رائد الأكبر، والذي نجا وبقي على قيد الحياة، لم يتمكن من الكلام لفترة طويلة بسبب الصدمة. علمت أن إيمان كانت تنام مع زوجها وأطفالها في غرفة واحدة. وكانت هناك امرأة أخرى نائمة في الغرفة، عانقت أمها وابنها. سألتها إيمان: "لماذا تحتضنينهم؟"، فقالت لها: "إذا مت سأموت وأنا أحتضنهم". ثم احتضنت إيمان أيضًا زوجها وأولادها.
في اليوم التالي، غادر الأشخاص الذين كانوا معهم والذين بقوا على قيد الحياة وقد رفعوا علمًا أبيض، وأثناء سيرهم، تم إطلاق النار عليهم وقتل بعضهم. وعلمت أن اثني عشر شخصًا قُتلوا في اليوم التالي أثناء محاولتهم الخروج والهرب.
قُتلت أختي إيمان وزوجها وأطفالها يوم 11.11 بين الساعة العاشرة والحادية عشرة ليلاً.
لا ينبغي أن يموتوا. لقد قتلوا بدم بارد. هؤلاء هم أفراد عائلتي وهذه قصتي، لكن هناك 23 ألف شهيد بهذه الحرب الى الان، كل شخص لديه قصته الخاصة. هؤلاء هم بشر من روح ودم وكانت لكل منهم حياة.
منال: اعرف بانك تعملين بمجال الصحة النفسية وانك عاملة اجتماعية عيادية في عيادة للصحة النفسية للأطفال بالرملة، وأن لديك زملاء جميعهم يهود. كيف كان رد فعل زملائك على ما حدث لاختك وعائلتها؟
شيرين: في مكان عملي شعرت بصعوبة كبيرة قبل استشهاد أختي وعائلتها، بعد 7 أكتوبر مررت ايام صعبة للغاية في محيط عملي، شعرت أن المجتمع الإسرائيلي دخل في حالة ذهان وفعلوا آليات الانقسام: في نظرهم وانقسم العالم إلى جيد وسيئ، ودخل كل العرب إلى المجموعة السيئة، مجموعة الاشرار. شخصيًا، شعرت انهم يعاملوني بشكل يختلف عن ذي قبل - بحذر مفرط، وربما بالشك، وربما بالخوف من أن أسيء لهم. شعرت أن شيرين التي كانت قبل 7 أكتوبر بالنسبة لهم ليست هي نفس شيرين التي يقابلونها الآن.
كانت الاجواء مشحونة بالتوتر، وشعرت أنه كان من المتوقع مني وباستمرار أن أدين أحداث 10/7، ولم يكن لدي ما أتوقعه منهم لإدانة الحرب والقتل الذي يحدث في غزة. شعرت أن المطلوب مني أن أعبر عن حزني على ضحايا ال 7من أكتوبر فقط وان لا أذكر الضحايا بغزة.
منال: هل عرفوا أن لديك عائلة في غزة؟
شيرين: نعم، كانوا يعرفون. لكنهم لم يتمكنوا من رؤية أن هناك جانبًا آخر. بالنسبة لهم، غزة كلها هي حماس.
منال: هل قالوا لك ذلك؟
شيرين: كان هناك العديد من المواقف التي دار فيها الحديث عن الحرب، فقالوا لي: "إما ان نعيش تحن وإما هم". وكنت أسألهم: "من نحن ومن هم؟ وما الذي تتحدثون عنه؟ هناك أناس بغزة، هناك أطفال ونساء وعائلات، يوجد لي عائلة هناك، ماذا تقصدون بكلامكم اما ان نعيش نحن واما هم؟ فيجيبونني: نحن نتفهم مدى التعقيد الذي أنت فيه، ولكن لماذا نهتم نحت بحياة المواطنين وحركة حماس الحاكمة هناك لا تهتم بهم؟ لو اهتمت حركة حماس بهم لما عرضتهم للخطر، ولو لم يكونوا مناصرون لحماس لكانوا قد أطاحوا بحكومة حماس في غزة". وكأنهم هنا في إسرائيل تمكنوا من تغيير شيء ما بـالمظاهرات ضد ما يسمى «الإصلاح القانوني» أو تجاه رئيس الوزراء! إذا كان شعب إسرائيل، الذي يتمتع بالكثير من الامتيازات، غير قادر على التأثير على الحكم او التغيير، فكيف تتوقع من سكان غزة الذين يعيشون تحت الحصار منذ سنوات وحكومة لا تدار كحكومة ديمقراطية على الإطلاق، فكيف تتوقع منهم أن ينجحوا هم في ذلك؟
منال: هل عرفوا أن أختك كانت هناك بغزة؟
شيرين: كانوا يعرفون ويسألونني عن حالها، ولكن كانت هناك أيضًا تصريحات بأنهم يأملون أن تجد أختي طريقة لحماية روحها. ولكن كيف؟ كنت اسأل دائما، لقد كانت جملة مثيرة للغضب. أعلم أنه لا يوجد مكان آمن بالقطاع. فيجيبوني أنها إذا اتبعت تعليمات الجيش فسوف تنجو بروحها. كانوا يقولون لي إن الجيش أخلاقي ويرشد الناس إلى أين يذهبون. وكانوا أيضًا مقتنعين بأنه لا يوجد جيش في العالم يفعل ما يفعله جيش اسرائيل. كنت اجيبهن أن ما يقولونه ما هو الا وهم، وأنه لا توجد حفرة آمنة في غزة. لكنهم صدقوا ما سمعوه في الأخبار في إسرائيل ولم يحاولوا البحث أو الاستماع إلى مصادر أخرى او قنوات اخبارية أخرى.
منال: لكن لا تتحدثي معهن عن أخبار سمعتيها، بل شاركتيهن بقصتك الخاصة، قصة عائلتك. هذه هي معرفة مباشرة. كيف تعاملت مع الشك الذي يحملنه معهن ؟
شيرين: لا يوجد لديهن اي استعداد للتشكيك ولو للحظة في أخلاق الجيش - كانت كل هذه الاحاديث قبل استشهاد إيمان، ولكن بعد ذلك لم يكن بيننا مثل هذه الأحاديث على الإطلاق، عزوني وقالوا إنهن يتألمن معي. لكن الاجواء بدت هادئة، وبدا كما لو لم تكن هناك اي حرب بالخارج.
منال: هل شعرت بالاهتمام من طرفهن بكيف تمر عليك الايام وكيف تواجهين الفقدان الصعب الذي الم بك؟
شيرين: كان هناك دعم رسمي من زميلاتي في العمل، فقد زاروني وواسوني في منزلي، كذلك سمحوا لي بأخذ كمية الايام التي اريد من اجازتي وان أعود إلى العمل بوتيرة تناسبني.
في البداية بدا أنهم فوجئوا بعودتي إلى العمل، وفي نفس الوقت أخبروني أنهم لن يتخلوا عني ولكنهم سيقبلون ويحترمون كل قرار أتخذه.
منال: لماذا توقعوا عدم عودتك؟
شيرين: قلت لهم قبل ذلك إذا حدث شيء لأختي فلن أعود إلى العمل. قلت إنني أستطيع أن أتحمل تعقيد الوضع ولكن إلى حد معين، وأنني إذا استشهدت أختي فلن أتمكن من تحمل هذا التعقيد بعد الآن. قبل ذلك كان لدي شعور بأنني أستطيع التعامل مع التعقيد. عرفت كيف أتعامل مع آلامهم. لكنني شعرت أنهم غير قادرين على التواصل مع ألمي. لقد كانوا متمركزين فقط بآلامهم ولم يحاولوا أن يشعروا بآلام الآخرين. إن أكثر ما خيب أملي هو أن الأشخاص الذين يعملون في تقديم الرعاية الصحية النفسية، في العلاج النفسي، حيث أن جزءًا كبيرًا من العمل الذي نقوم به هو الاستماع والفهم والشعور مع الآخر (المتعالج)، ومع الألم والضيق الذي يشعر به. . إذا لم تتمكن من تعمل بمجال الصحة النفسية من التعامل مع هذا التعقيد فمن يستطيع اذن؟ كنت اقول لهم: "أنا أفضل منكم لأنني أستطيع أن أفهم وأتعاطف مع أم قُتل ابنها في 7 أكتوبر، ومن اختطف ابنها، ولا ألغي نفسي، حيث يمكنني أن أتواصل مع نفسي و مع الآخرين في ذات الوقت، لا أرى تناقضًا بين القدرة على التواصل والشعور بالتعاطف مع الأم التي قُتل ابنها في 7 أكتوبر، وبين التواصل مع الألم تجاه ما يعيشه شعبي وكذلك أختي. لم يحاول زملائي التواجد في مثل هذا المكان على الإطلاق. قالوا لي عدة مرات عبارة "إما نحن وإما هم".
منال: عندما يقولون لك "إما نحن وإما هم" ألا يفهمون أنك أيضاً جزء من "هم" من هؤلاء؟
شيرين: عندما تحدثت عن وجع أهل غزة وصلتني رسالة منهم بأنني خائنة. قالوا لي: أنت أيضاً تعاني من الصواريخ التي تُطلق عليك مثلنا. أنت أيضاً في خطر مثلنا. من المفترض أن تشعرين بالانتماء مثلنا.
منال: أن في ذلك كثير من القسوة ان يضعوك في هذا الموقف. ليست تلك مسألة انتماء فحسب - فعائلتك، وأختك التي كبرت معها تعيش هناك، هي وعائلتها .
شيرين: كان لدي شعور وكأنه يجب علي ان أتجرد من جلدي وان أصبح شخصًا آخر غير أنا. عندما عدت إلى العمل بعد أيام الحداد، لم يكن هناك مثل هذه الأحاديث، لم يكن هناك حديث على الإطلاق عن كل ما يتعلق بالحرب.
منال: إذًا توقعوا منك التواصل والتعاطف مع ألم الطرف الآخر، جانبهم، وعندما كنت أنت في حالة حزن وألم قرروا عدم التحدث عن الأمر على الإطلاق - هل هذا هو أقصى قدر من التعاطف والحساسية التي يمكنهم القيام بها تجاهك؟
هل تعتقد أنه كان بإمكانهم الرد بطريقة أفضل من ذلك وأقل إحباطًا بالنسبة لك؟
شيرين: أعمل مع اخصائيات في الصحة النفسية، الجملة التي ترشدنا في عملنا هي أن نرى الاخر حيث هو، وأن نحترم ألمه بغض النظر عن خلفيته وهويته، كما تعلمنا أنه من الضروري أن نراعي الجدلية والتعقيد. هذه هي المفاهيم التي نشأنا عليها كمهنيات بمجال الصحة النفسية. شعرت أننا ذهبنا معهم إلى أماكن عاطفية بدائية غير متطورة. خيبة أملي كانت كبيرة جداً. إذا لم يتمكن اخصائيين الصحة النفسية من التواجد في هذه الأماكن، فما الذي يجب ان توقعه من الأشخاص الآخرين خارج مهنتنا؟ هذا يعني ايضا أنه لا أمل على الإطلاق في أن يكون هناك حوار حقيقي بين العرب واليهود. كان الوضع معقداً وصعباً قبل السابع من أكتوبر والآن أصبح معقداً وغير قابل للتفكيك.
منال: لماذا ترين انه أصبح الأمر اكثر تعقيدا؟ لماذا لا نقول أنه كان من المفاجئ ومن المخيب للآمال أن نرى مهنيين بالصحة النفسية لا يتبعون المبادئ والقيم الأساسية في مهنتنا؟ أنهم هم من لا يملكون القدرة على التواصل مع الآخرين؟ خلال سنوات تدربنا ومارسنا هذه المهارة مراراً وتكراراً، من اجل التواصل مع الآخر، الاستماع إليه ومحاولة فهم مكانه، لكن ما حدث هو أننا اكتشفنا أن العديد من المهنيين لا يراعون هذه القيم ولا يأبهون بوجود آخر. ما كان مفاجئًا ومخيبًا للآمال هو أنهم هم بدوا كمن لا يملكون القدرة على التواصل من الاتجاه المعاكس، وأنهم في لحظة الحقيقة لم يرتقوا إلى مستوى لطالما كانوا يتحدثون ويتغنون به.
شيرين: لا يبدو أنهم فكروا بي على الإطلاق. إنهم لا يرونني كذات لها كيانها الخاص بها. لقد كانوا ينظرون فقط من منظور احتياجاتهم الخاصة. لا أعتقد أنهم يعتبروننا أناس مثلهم.
شيرين: لقد فهمت أيضًا أن أحداث 7/10 أثارت قلق وجودي عند الكثير من اليهود لدرجة ان البعض شعروا ان المحرقة تعود مرة أخرى. لقد أثار السابع من اكتوبر فيهم الصدمات المتعلقة بالهولوكوست.
منال: إن ردود الفعل للمجزرة التي واجهها سكان قرى غلاف غزة كانت من هؤلاء الذين لا تربطهم قرابة او علاقة مباشرة بالضحايا من سكان غلاف غزة قاسية(انا بالقصد افصل هذه المجموعة من مجموعة الضحايا للمذبحة بسبعة اكتوبر) كانت هتافات انهم يعيشون الهولوكوست مرة أخرى وكل تلك الاقاويل . ألم يفكروا ان الحرب اعادت المخاوف من ان نعيش نكبة ثانية وان روساء إسرائيل توعدوا بالقيام بذلك ليل نهار ببداية الحرب. كان مؤسفا انهم لم يحاولوا الانتباه ومراعاة ذلك، من المفروض ان يكونوا زملاء وزميلات مهنة. كانت هناك فرصة جيدة للحوار والتقرب فيما بيننا.
شيرين: لكي يحدث هذا، يجب أن يتم الاعتراف بك كذات، لديها تاريخ وصدمات فريدة خاصة بها ، بما في ذلك يتطلب ذلك الاعتراف بأن لديك رواية خاصة، وهي تختلف تمامًا عن السرد الذي نشأوا هم عليه. ان العديد من اليهود الإسرائيليين لا يدركون حتى أن هناك مناطق محتلة عسكريا. بالنسبة لهم، انهم اتوا للعيش في أرض كانت فارغة من السكان. واذا عدنا للتحدث عن الفلسطينيين، سمعت عن ان هناك من هم غاضبين على آبائهم الذين تركوا منازلهم التي كانوا يملكونها قبل النكبة. لكنهم اليوم وعلى اثر الحرب أصبحوا يفهمون أن والديهم تركوا منازلهم طواعية ودون ان تكون لهم أي رغبة في ذلك. لقد تم نفي ومحو أحداث النكبة لدرجة أن هناك فلسطينيين شككوا أو لم يصدقوا بشكل كامل بما حدث مع ابائهم واجدادهم بنكبة عام 1948.
منال: الأدلة والبراهين على وجود مجازر وتهجير جماعي في النكبة وجدت في أرشيفات الجيش الإسرائيلي وأرشيفات دولة اسرائيل، في الماضي كانت هذه مواد سرية، لكن في السنوات الأخيرة تم كشف بعض هذه المواد وقد كتب عنها مؤرخين وصانعي أفلام وثائقية من اليهود، إذ بقي ذلك ممنوعا على الفلسطينيين.
شيرين: جدي والد أمي، أبو أيمن، شهد المذبحة التي كانت بمسجد دهمش باللد بالنكبة، قتل ابوه وكل إخوته وأعمامه في تلك المذبحة. تحدث جدي على انه يذكر كيف ان الدماء تدفقت من المسجد إلى الشارع. كان جدي يبلغ من العمر 12 عامًا، وقيل لنا انهم البسوه ثياب فتاة كي لا يأخذوه جنود الصهاينة الى الجامع مع الرجال والشباب الذين جمعوهم ومن ثم اطلقوا النار عليهم وهم داخل المسجد، وبالتالي فهو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من بين جميع الذكور في الأسرة. هذه روايات صعبة للغاية.
منال: بالتأكيد، وما زالت اغلب هذه القصص طي الكتمان. إن معظم الناس في غزة لديهم قصص مشابهة لما حدث لجدك، فأغلبهم عاشوا بمدن وقرى الساحل والجنوب من فلسطين قبل النكبة وقد شهدت اغليها احداث دامية ومؤلمة
أريد العودة معك إلى ما قلته عن مكان العمل. لقد أخبرتني من قبل أنك أخبرتهم: "إذا حدث شيء لأختي، فلن أعود إلى مكان العمل". لماذا قلت لهم ذلك؟
شيرين: كما قلت، بعد 7 أكتوبر، أجريت محادثات صعبة للغاية مع زميلاتي في العمل. سألت ذات مرة إحدى الزميلات التي كانت تسألني دائمًا عن حال أختي، إذا كان اهتمامها ذلك نابع من الشعور بالذنب، فأجابت بالسؤال: "لماذا يجب أن أشعر بالذنب؟" لذلك توقفت عن الحديث عن اختي اذ انه لم يكن بمقدوري ان اعرف ما هي الدوافع التي كانت تقف وراء اسألتها عن اختي - هل هو لابداء تعاطف معي ام ان لديها دوافع أخرى خفية- كانت كثيرًا ما تقول عبارات "إما نحن وإما هم". و"أتمنى أن تجد أختك طريقة كي تحافظ على حياتها". لقد شعرت وقتها بالقلق الشديد واليقظة المفرطة، لذلك طلبت منها ذات مرة تتوقف عن السؤال عن أختي.
منال: تمنيت لو انه كان لديها شعور بالذنب.
شيرين: صحيح، وكان من المخيب للآمال بالنسبة لي أن أعرف أنها لم لا تشعر بذلك.
منال: كيف تحملت هذه المحادثات القاسية؟
شيرين: لم أتخيل يوما أن تكون هذه مواقف زميلاتي، ولم أتوقع على الإطلاق أنهن يفكرن بهذا الشكل. لقد كانت لدي سذاجة وكان لدي أمل في إيقاظهن وجعلهن يرون أيضًا ما أراه أنا، شعرت وقتها بنوع من المسؤولية لان اساعدهن ان يستطعن ان يروا ويتواصلوا مع ما أراه أيضًا.
منال: أنت شجاعة جدًا ان اجريت مثل هذه المحادثات.
شيرين: لقد كنت وحيدة أمام ذلك. لم يكن هناك أحد ليضع يده على كتفي، يدعمني او حتى يعطيني الشعور بأنه/ا معي. لقد كنت المرأة العربية الوحيدة وكأنني اواجه لوحدي عاصفة كبيرة. لقد كان ذلك صعبا للغاية ولا يزال الامر صعبا لكني تعلمت اليوم ان لا ادخل الى مثل هذه المحادثات.
منال: لماذا عدت إلى العمل؟ أخبرتهم أنك لن تعودي إذا حدث شيء لأختك.
شيرين: لو كان الأمر بيدي كنت أفضل الهجرة إلى بلد آخر، الواقع هنا أصبح لا يطاق، وكذلك حقيقة أن الجميع يتجولون حاملين السلاح. لكن الأمر لا يعتمد علي وحدي، فأنا لا أعيش وحدي. لدي زوجي وأولادي ومركز حياتهم هنا، ولا أستطيع أن أقرر بالنيابة عنهم جميعاً. وفيما يتعلق بمكان العمل، لم أغادره لعدة أسباب. اولا ليس لدي الطاقة اللازمة لترك وظيفتي وبدء عمل جديد الآن. أنا أيضًا أحب العمل الذي أقوم به، والعلاجات النفسية التي أقدمها وما اقوم به كجزء من وظيفتي كرئيسة طاقم. أنا أيضًا ادرس في السنة الثالثة من دراسات العلاج النفسي. لا تزال هناك أشياء في العمل أحبها ولا ارغب أن اتركها.
منال: لو كان عملك في مؤسسة جميع طاقمها من العرب، هل تعتقدين أن الأمر سيكون أسهل بالنسبة لك؟
شيرين: أكيد. أعتقد أنه لم يكن عليّ أن أقاتل من أجل اسماع الصوت الذي حاربت طوال الوقت من أجل ان يسمعوه. كنت سأشعر أنني سآخذ مساحة اكبر واعتراف اكبر بألمي وكذلك سيتم منحي اكثر شرعية للألم والخسارة،بمكان عملي اعطوني الشرعية للالم لكن لا توجد عندهم اي شرعية للغضب على الإطلاق. لدي غضب كبير. موت أختي هو موت كان يجب أن لا يحدث. لا يوجد سبب في العالم يجعلها وعائلتها يموتون بهذه الطريقة. وكان لافتاً أنه أمام زملائي في العمل لا مكان ولا شرعية لي أن أتحدث عن غضبي. وإذا عبرت عن غضبي أتلقى منهم الرد بأنه" لا يوجد هنام طريق آخر".
منال: هذا كلام صعب للغاية. هذه ليست عبارة مثل "أتمنى أن تنتهي الحرب أو أتمنى لو فعلنا شيئًا من أجل انقاذ أختك" ولكن "ليس هناك طريقة أخرى" يا لها من قسوة في المشاعر
شيرين: نعم، حتى في محيط عملي هناك من تجند زوجها في الاحتياط والتي ابنها جندي بالجيش، ويكثر الحديث بينهن عن ذلك. لم تكن هناك حساسية لكيفية تأثير مثل هذا الحديث علي. الفكرة الصعبة التي تدور في ذهني في هذا الوقت هي أنه ربما يكون ابن هذه الزميلة أو زوج الزميلة الأخرى هم من قصفوا أختي وعائلتها، ولكن يبدو أنه لم يخطر ببالهن أبدًا أن مثل هذه الفكرة ستجول في رأسي. الحديث المتكرر والعفوي عن أفراد الأسرة والأقارب الذين يتواجدون في صفوف الجيش والذين يقاتلوا في منطقة غزة، ومن ناحية أخرى عدم الانتباه لما يفعله مثل هذا الحديث بي - كل هذا أكد لي انهن لا ينظرن لي كذات انما كشبء ما لا يملك المشاعر والافكار، هذا يؤكد عدم قدرتهن من الاعتراف او توخي الحساسية لمن هي "أخرى" وتختلف عنهن.
منال: من كلامك تخطر لي فكرة أنه من المهم جدًا إنشاء مجموعات ارشاد ومجموعات دعم متبادل فلسطينية أحادية القومية، خاصة في مثل هذه الاوقات.
شيرين: صحيح. لكني أريد أن أقول إنني تعرضت أيضًا لموقف مختلف. أن المرشدة الخاصة التي اذهب اليها وكذلك المعالجة النفسية التي لدي تعاملن معي ومع ما مررت بشكل مختلف، انساني وقادر على رؤية الالم عند الفلسطينيين ايضا. كذلك ابدين قدرة على رؤية والنظر إلى السياق لكل هذا وان الاحتلال هو شيء بغيض ويجب أن ينتهي.
منال: مثير للاعجاب كيف تختارين طرح موقفك وعدم سماحك للكلام الموجه إليك بالتقليل من شأنك أو ان يسبب لك فقدان الاتصال بهويتك. لا تتعاونين مع ما فيه حذف او إلغاء، حتى لو كان ذلك على حساب ان تسمعي أشياء صعبة، أو كلام مسيء تجاهك.
شيرين (تبتسم): اسمعي، الله لا يستجيب لعبده الصامت.
منال: أسمعك وأفكر في الشابات اللواتي ببداية مشوار التأهيل المهني، اللاتي يضطررن إلى الخضوع لتدريب وتأهيل في العلاج النفسي، مما يجعلهن يعتمدن بشكل كبير على التوجيه والمشرفات اللواتي يرافقهن، وكم يمكن أن يكون مثل هذا الحديث مخيفًا وخطيرًا بالنسبة لهن.
شيرين: لماذا؟
منال: في هذه المرحلة، وهي المرحلة الأولى من العمل في العلاج النفسي وتكوين الهوية المهنية، هناك اعتماد كبير على المشرفة وعلى أسلوبها المهني وعلى حقيقة انها هي من تقوم بتقييم المتدربة وجاهزيتها للعمل في المهنة. في الحالات التي لا يكون لدى المشرفة معرفة أو اعتراف بأن لديك رواية مختلفة، في حال لم تتحمل مسؤولية نقص المعرفة و/أو عدم قدرتها على الاعتراف بتجربتك المختلفة، فقد تكون تفسيراتها لما تقومين به يحمل شيء من السلبية. أو بدلاً من ذلك، لن تولي الاهتمام المطلوب للأمور التي ترينها مهمة. في كلتا الحالتين، فإن الصيرورة التي تمر بها المتدربة قد لا تفيدها او لربما تؤذيها. إذا أرادت المتدربة تقديم نفسها بشكل أصيل وتجنب التظاهر في نقاط معينة، وفي نفس الوقت تريد الحصول على تقييم إيجابي من المشرفة. أعرف العديد ممن فعلوا ويفعلون ذلك بهذه الطريقة، الذين ركزوا على هدف إنهاء التدريب وتلقي تقييم جيد، وأنا بالطبع لا أحكم عليهم لقيامهم بذلك. ولكن بعد ذلك يبقون مع أمور لم تكتمل في بناؤها داخل النفس تتعلق بتكوين هويتهم المهنية، ولكن كيفما ذكرت عندما يكون هناك عدم اعتراف بذلك من الجانب الآخر (المشرف) يمكن أن يؤدي بسهولة إلى تعقيدات وشعور بفجوة كبيرة لا يمكن سدها، وفي معظم الحالات يقوم المتدربات/ين بهذه العملية بعد الانتهاء من التدريب وبعد الوصول إلى مستوى معين من الاستقلال بالمهنة
شيرين: بدأت دراستي الجامعية عندما كان عمري 36 عامًا، حيث درست الخدمة الاجتماعية. أعتقد أن العمر له تأثير ووزن مهم. في السنة الأولى من دراستي الجامعية في بار إيلان، لا أذكر أني حذفت أي شيء مني، ولا حتى هويتي الفلسطينية. وحتى في ذلك ذلك الحين، في مرحلة السنة الأولى، تحدثت عن القضية الفلسطينية.
منال: يا لك من شجاعة تتحدثين عن قضية فلسطين من السنة الأولى وبجامعة بار إيلان؟ هل يمكن أن يكون الأمر مرتبطًا بحقيقة أنك لم تنشأي هنا مثلي ومثل الآخريات من فلسطينيات الداخل؟ أنك لم تنشأين في سياق التخويف , التكتم والإنكار للرواية الفلسطينية داخل اسرائيل.
شيرين: صحيح. ومن الواضح أن لذلك تأثير.
منال: منذ ولادتك وحتى عمر 18 عامًا، بما في ذلك الفترة التي عشت فيها في المملكة العربية السعودية، كان لديك تواصل ووعي لهويتك الفلسطينية.
شيرين: نعم. اعتدت أن أعرف نفسي فلسطينيًة منذ صغري، وكانت هناك لقاءات وبوابات أغلقت في وجهي بسبب هويتي الفلسطينية ولم يتم إنكار ذلك أبدًا، ولا حتى عندما كنت أعيش في السعودية وأواجه السلطات هناك. أتفق معك في أن قصة حياتي هي التي جعلتني ما أنا عليه اليوم، وأن عنصر هويتي الوطنية هو عنصر واضح يرافقني في كل مكان. هناك أشياء تمر إلى جانب الناس بينما تمر الأشياء من داخلي ومن خلالي. وفي دراستي أيضًا، عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير في العمل الاجتماعي، شاركت في دورة موجهين في "التواصل الموسيقي بين العرب واليهود" في جامعة بار إيلان. في البداية قمت بالتسجيل الى الدورة كطالبة، وكان موجهين الدورة هم البروفيسور آفي جلبوع وشهد أبو حمد. بعد أن أنهيت الدورة، عرض عليّ البروفيسور جلبوع أن أوجه المجموعة إلى جانبه بدلا من شهد. عرضه الذي أسعدني بالطبع، لكنه جعلني أتساءل عن سبب اختياره لي، كنت طالبة دراسات عليا مبتدئة وكان هو رئيس القسم. أخبرني أن لدي صوتًا شجاعًا، وأنني لست "لطيفًة" وأن لدي قصة حياة فريدة من نوعها، وفي الوقت نفسه يمكنني أن أكون في جميع أنواع الأماكن، وأنني أعرف كيف يعني أن تكبري كفتاة في غزة وكيف كان الأمر عندما نشأت بعد ذلك في المملكة العربية السعودية، ولدي تجارب خاصة مع مواجهة اشكال العنصرية، وعند نقاط التفتيش الأمنية، وأن نشأتي تختلف عن فلسطينيات الداخل.
منال: أعرف فلسطينيين لديهم تاريخ يشبه إلى حد ما ما مررت به، أو أكثر صعوبة، ويقولون: "لا أريد التعامل مع هؤلاء الناس، ولست مستعدة للتواصل مع أولئك الذين يحتلون منزلي ووطني". يبدو لي أن لديك ارتباطًا بشيء إنساني عميق، وأنه لم يحدث لك أبدًا أن فقدت هذا الارتباط أو انقطعت عنه، فأنت غير مستعدة للتخلي عنه تحت أي ظرف من الظروف وتصرين على التمسك به. على هذا الارتباط بالرغم من التجارب الصعبة التي مررت بها. كما قلت من قبل، عليك أن تدع الأمور تمر من خلالك، وليس من جانبك.
شيرين: لقد مررت بصيرورة هنا ايضا. عندما وصلت إلى البلاد لأول مرة حيث كان عمري 18 عامًا، كان لدي موقف مناهض ورافض للتواصل مع الصهاينة. عمي، شقيق أمي، كان شهيداً. كذلك قُتل أعمام جدي وإخوته في المجزرة التي وقعت في مسجد دهمش باللد. عائلة والدتي هي عائلة عانت كثيراً، ودفعت ثمناً باهظاً. في البداية خطرت لي فكرة أنني سأقابل أولئك الذين يرمزون للعدو. لكن عندما اندمجت وتعرفت على الناس عن قرب، رأيت أن هناك أيضًا جوانب انسانية تربط بيننا.
منال: كنت على علم بمسألة الثمن من البداية، وكنت على وعي انك لا ترغبين أن يكون ذلك على حساب إلغاء شيء من ذاتك أو تاريخك او الانتماء العائلي، وأيضا ولكي تتمكنين من تكوين مهنة لنفسك كان عليك التعامل مع كل هذه الامور الصعبة.
شيرين: أدركت أنه حتى لو أندمجت مع الآخر، فلا ينبغي أن يهدد ذلك هويتي الوطنية أو ينفيها. هم لا يستطيعون فهم ذلك، أن أصر على هويتي، ولكن أحافظ على العلاقات الإنسانية، حيث أحترم ألم الآخر وهويته، لكن ذلك لن يكون على حساب هويتي. أدركت من خلال الدورة أن هناك أشخاصًا يشعرون أن مجرد الاعتراف من جانبهم برواية أخرى يسبب شعورًا بالتهديد تجاه هويتهم.
منال: يبدو الأمر كما لو أنك عائدة الآن إلى العمل، وتستمرين في التواصل الإنساني الذي هو طبيعي جدًا بالنسبة لك، ولا تتخلى عن تطورك المهني، ولا تقولين أيضًا - "لقد ارتكبتم جريمة". لكن الحقيقة أنك لا تختفي وتستمربن في التواجد وجلب مواقفك والحديث عن هويتك، يبدو لي أنك في هذا تمنحيهم فرصة لمواجهة مسؤولياتهم. من المستحيل عدم الاعتراف بك كذات، ولا يمكن إنكار وجود الفلسطينيين وأن لديهم تاريخهم الشخصي والعائلي والجغرافي ويؤثر كل ذلك على ذاتيتهم، وأن الفلسطينيين ليسوا مثل "الكتاكيت الصناعية التي تفقس من البيض لوحدها" "من العدم"، أن هناك بالتأكيد من يفضل التفكير بهذه المصطلحات، لكن هذا يعني أنهم يعاني من الذهان أو أن خرقهم الأخلاقي كبير لدرجة أنه لا توجد لديهم فرصة للشفاء.
شيرين: لاحظت أنه كلما زادت المسافة بين اليهود والعرب، زادت الكراهية. المسافة تهدد وتخلق مساحة لعواقب سلبية، وأنه كلما ابتعدت، يُنظر إليك كشخص مختلف يخاف ويخشى الاقتراب من الاختلافات الموجودة بينكم، بينما في الواقع، اختلافك لا يعني إلغاء اختلافهم. المسافة والتجنب يخلقان حواجز نفسية ويمنعان أي أمل في التواصل الإنساني والحوار، وما يسمى بالصحة النفسية في عملنا.
منال: عزيزتي شيرين شكرا جزيلا لك. من خلال ما شاركتنا به عن الفقدان والحداد الذي تمرين به، ساعدتني والآخرين الذين سيقرأون هذه المقابلة في فهم أن هذا الفقدان اكبر من الفقدان الشخصي هو فقدان لكل من يضع الانسان والانسانية كقيمة عليا، وفقدان لمقدسي الحياة. من المؤسف جدا انهم لم يبقوا معنا على قيد الحياة. النشاط الإنساني الذي استثمروا فيه حتى وفاتهم، واختيار إيمان العنيد لعيش حياة طبيعية واهتمامها بسلامتها ورفاهية أسرتها ورفاهية اولادها الجميلين والناجحين الذين قامت بتربيتهم على أفضل شكل مع رائد زوجها. وأيضاً في إطار التعبير عن الالتزام والمسؤولية الطبية المهنية تجاه النساء اللاتي تم علاجهن في المستشفى وتقديم العلاج الذي أتاح لهن تحقيق رغبتهن في إنجاب الأطفال. إصرار الراحلين الدكتور رائد والدكتور باسل وشقيقهما الأكبر الدكتور مهدي اطال الله في عمره، على مواصلة الطريق وايصال الرسالة التي تلقوها من والدهم، في إدارة وتشغيل المستشفى وتطويره حتى بعد وفاته. وفي الوقت نفسه، يمكن للمرء أن يفهم خوفهم من فقدان منزلهم وممتلكاتهم وإصرارهم على البقاء في المنزل حتى اللحظة الأخيرة وعدم التخلي عنه. كل ذلك يشير إلى الألم والحزن والمشقة التي عاشها أهلهم في النكبة، والتي خسروا خلالها المنزل الذي كانوا يملكونه في المجدل، وقرار الأبناء بذل كل ما في وسعهم لمنع ان يحل فيهم ما حل بوالديهم في النكبة
وفي هذا السياق، أتذكر كلام البروفسور مصطفى حجازي الذي ألف عدداً كبيرا من الكتب عن نفسية الإنسان المقهور:
قد ينكسر أو ينحني الوطن، لكنه لن يموت أبداً، لأنه بفضل الأجيال الشابة هناك ايضا طاقة الحياة التي تتجدد باستمرار.
هنالك قيادات ميتة وتحاول ان تميت المجتمعات معها, لكن المجتمعات "ولادة" لا تموت.
لا تتقاعسوا في اطلاق طاقات الحياة واطلاق فاعليتكم الذاتية, هذه الطاقات هي ضرورية في الازمات والكوارث تحديدا. هذا ما يعلمنا إياه تاريخ كفاح الشعوب
|
|
|
|
|